فصل: تفسير الآيات (86- 87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (86- 87):

{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}
{ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً} الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريق الدّين، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال السدّي: هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، وقال أبو هريرة: هو نهي عن السّلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه» ثم تلا {ولا تقعدوا بِكل صراط توعدون} وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبة لقوله {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله {وتصدون عن سبيل الله من آمن به} بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي: قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنه غضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا لله وإنا إليه راجعون، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه. وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً» وما أكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه له تصرف في الوجود ودلال على الله تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعه الجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحة لا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام، وقال بعض الشعراء:
تساوى الكلّ منا في المساوي ** فأفضلنا فتيلاً ما يساوي

وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري على المجاز، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله {لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم} فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله {وتصدون عن سبيل الله}، فإن قلت: صراط الحقّ واحد {وإنّ هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} فكيف قيل بكل صراط، (قلت): صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى. ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله {وتصدون عن سبيل اللهِ} كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون {بكل صراط} حقيقة في الطرق، و{سبيل الله} مجاز عن دين الله والباء في {بكل صراط} ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله {توعدون} {وتصدون} {وتبغونها} أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء.
قال أبو منصور الجواليقي: إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا: أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضرب والصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعاد من الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و{من آمن} مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول {توعدون} ضمير محذوف والضمير في {به} الظاهر أنه على {سبيل الله} وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث، وقيل عائد على الله، وقال الزمخشري: (فإن قلت): إلام يرجع الضمير في آمن به، (قلت): إلى كلّ صراط تقديره توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل {من آمن} منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال الأوّل وهو قليل.
وقد قال النحاة أنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب {وتصدونه} أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ويدلّ على {من آمن} منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله: {قل يا أهل الكتاب لمَ تصدون عن سبيل الله من آمن} ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل {ولا تقعدوا} وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو قلت: يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله {وتبغونها عوجاً} في آل عمران.
{واذكروا إذا كنتم قليلاً فكثركم} قال الزمخشري {إذ} مفعول به غير ظرف أي {واذكروا} على جهة الشكر وقت كونكم {قليلاً} عددكم {فكثركم} الله ووفر عددكم انتهى؛ وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه {واذكروا} لاستقبال اذكروا وكون {إذ} ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا، وقال الزمخشري: إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرة العدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله {فكثركم} معنى بالعدد ألا ترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ، وقال الشاعر:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ** فقلت لها إنّ الكرام قليل

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ** عزيز وجار الأكثرين ذليل

وقيل: المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على مقابلاتها. {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن جلّ به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة.
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبِروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإيمان {لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك} وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلو قومه من القسمين والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من إفراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان ونهاهم عنه من البخس والإفساد والقعود المذكور ومتعلق {لم يؤمنوا} محذوف دلّ عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به والخطاب بقوله {منكم} لقومه وينبغي أن يكون قوله {فاصبِروا} خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن {بيننا} أي بين الجميع فيكون ذلك وعداً للمؤمنين بالنصر الاذي هو نتيجة الصّبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار، وقال ابن عطية: المعنى وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم ففي قوله فاصبروا قوة التهديد والوعيد هذا ظاهر الكلام وأنّ المخاطبة بجميع الآية للكفار، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان: المعنى {فاصبِروا} يا معشر الكفار قال: وهذا قول الجماعة انتهى، وهذا القول بدأ به الزمخشري، فقال {فاصبروا} فتربصوا وانتظروا {حتى يحكم الله بيننا} أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم لقوله تعالى
{فتربصوا إنا معكم متربصون} انتهى. قال ابن عطية: وحكى منذر بن سعيد عن أبي سعيد أنّ الخطاب بقوله {فاصبروا} للمؤمنين على معنى الوعد لهم وقاله مقاتل بن حيان انتهى وثنى به الزمخشري فقال أو هو موعظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم انتهى، والذي قدمناه أولاً من أنه خطاب للفريقين هو قول أبي علي وأتى به الزمخشري ثالثاً فقال: ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيّب انتهى، وهو جار على عادته من ذكر تجويزات في الكلام توهّم أنها من قوله وهي أفعال للعلماء المتقدمين {وهو خير الحاكمين} لأنّ حكمه عدل لا يخشى أن يكون به حيف وجور.

.تفسير الآيات (88- 123):

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}
عاد رجع إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار. قال:
تعد فيكم جزر الجزور رماحنا ** ويرجعن بالأسياف منكسرات

ضحى ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا: ضحى بغير تاء التأنيث وتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضع انفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار. الإرجاء التأخير، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} أي الكفار {الذين استكبروا} عن الإيمان أقسموا على أحد الأمرين إخراج شعيب وأتباعه أو عودتهم في ملته والقسم يكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكون بمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودن إذ صار فعلاً مسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكن في ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها، وأجيب عن هذا بوجوه، أحدها: أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى الله إليه، الثاني: أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيب بريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان، الثالث: أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كان منهم {قال أولو كنا كارهين} أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلماً أو الإقرار بالعود في ملتهم، قال الزمخشري الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى، فجعل الاستفهام خاصاً بالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله «ردّوا السائل ولو بظلف محرق» ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا.
{قَد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها} هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره {إن عدنا في ملتكم} فقد افترينا وليس قوله {قَد افترينا على الله كذباً} هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً، قال الزمخشري: فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيث يزعم أن لله ندّاً ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل. وقال ابن عطية: الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال: ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ** ولقيت أضيافي بوجه عبوس

وكما تقول افتريت على الله أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله:
إن لم أشن على ابن هند غارة ** لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس

ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذب أقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إن كان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر.
{وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا {أن نعود} في ملّتكم {إلا أن يشاء الله ربّنا} فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة الله وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاً في حكم الجمع، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله {بعد إذ نجانا الله منها} إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من الله تعالى، وقال الزمخشري: (فإن قلت): وما معنى قوله {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله} والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر، (قلت): معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله {وسع ربنا كل شيء علماً} أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله {إلا أن يشاء الله} حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة الله تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة، وقيل: هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب، قال ابن عطية: وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ إنّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {فيها} يعود على القرية لا على الملح.
{وسع ربنا كل شيء علماً} تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام.
{على الله توكلنا} أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام الله وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّل في إلا أن يشاء الله، وقال الزمخشري: يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان.
{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير وقيل بلغة مراد، وقال بعضهم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا ** فإني عن فتاحتكم غني

وقال ابن عباس: ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح، وقال السدّي وابن بحر: احكم بيننا، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلك وذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم، قال ابن عباس: كان كثير الصلاة ولما طال تمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة، وقال الحسن: إنّ كل نبي أراد هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم.
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإيمان: {لئن اتبعتم شعيباً} فيما أمركم به ونهاكم عنه، قال الزمخشري: (فإن قلت): ما جواب القسم الذي وطأته اللام في {لئن اتبعتم} وجواب الشرط؟ (قلت): قوله {إنكم إذاً لخاسرون} سادّ مسدّ الجوابين انتهى، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزئ به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب {وإذا} هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه {لخاسرون} والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكم إذا اتبعتموه {لخاسرون} فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهما والتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذف في {إذا} التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه، {لخاسرون} قال ابن عباس: مغبونون، وقال عطاء: جاهلون، وقال الضحاك: عجزة، وقال الزمخشري: {لخاسرون} لاستبدالكم الضلالة بالهدى لقوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} وقيل تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنه ويحملكم على الإيفاء والتسوية انتهى.
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} تقدم تفسير مثل هذه الجملة، قال ابن عباس وغيره: لما دعى عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحرَ شديد أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبرّدوا وجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها الله ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلو فصاروا رماداً.
وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ثم سلّط عليهم الحر، وقال يزيد الجريري: سلط عليهم الرّيح سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم، وقال قتادة: أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحةً فهلكوا جميعاً وقال ابن عطية: ويحتمل أنّ فرقة من قوم شعيب هلكت بالرّجفة وفرقة هلكت بالظلّة، وقال الطبري بلغني أنّ رجلاً منه يقال له عمرو بن جلّها لما رأى الظلة. قال الشاعر:
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا ** عنكم سميراً وعمران بن شدّاد

إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت ** تدعو بصوت على صمانة الواد

وإنه لن تروا فيها صحاء غد ** إلا الرّقيم تمشي بين أنجاد

سمير وعمران كاهناهم والرّقيم كلبهم، وعن أبي عبد الله البجلي: أبو جاد وهوّز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك مدين وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب عليه السلام فلما هلك قالت ابنته تبكيه:
كلمن قد هدّ ركني ** هلكه وسط المحله

سيّد القوم أتاه ** حتف نار وسط ظله

جُعلت نار عليهم ** دارهم كالمضمحله

{الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها} أي كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى: {فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس} وكقول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وقال ابن عطية: وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيات ثم قال وأما قول الشاعر:
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ** فكلاًّ سقانا بكاسيهما الدهر

فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذه اللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى، وقال ابن عباس: كأن لم يعمروا، وقال قتادة: كأن لم ينعموا، وقال الأخفش: كأن لم يعيشوا، وقال أيضاً قتادة وابن زيد ومقاتل: كأن لم يكونوا، وقال الزجاج: كأن لم ينزلوا، وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا و{الذين} مبتدأ والجملة التشبيهية خبره، قال الزمخشري: وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل {الذين كذبوا} شعيباً المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى انتهى، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر {الذين كذبوا شعيباً} كانوا هم الخاسرين و{كأن لم يغنوا} حال من الضمير في {كذبوا} وجوّز أيضاً أن يكون {الذين كذبوا} صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلى هذين الوجهين يكون {كان} حالاً انتهى، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب.
{الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} هذا أيضاً مبتدأ وخبره، وقال الزمخشري: وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا {لنخرجنك يا شعيب} فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا: {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب {الذين} هنا أن يكون بدلاً من الضمير في {يغنوا} أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل.
{فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام.
{فكيف آسى على قوم كافرين} أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى ناراً هما وكأنه وجد في نفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرّسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنوه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم، قال مكي: وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدّم ذكرها في الفاتحة.
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلهم يضرّعون} لما ذكر تعالى ما حلّ بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصرّوا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو {أخذنا} ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله {أخذنا} حاليّة أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله {إلا أخذنا} إلى آخره.
{ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة} أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السّرّاء والنعمة، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة مكان الشدّة الرخاء، وقيل مكان الشرّ الخير ومكان و{الحسنة} مفعولاً بدل و{مكان} هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ {مكان} إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم {مكان} ظرفاً أي في مكان.
{حتى عفوا} أي كثروا وتناسلوا، وقال مجاهد: كثرت أموالهم وأولادهم، وقال ابن بحر حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه أي أعرض عنه، وقال الحسن: سمنوا، وقال قتادة سرّوا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا.
{وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء} أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا هذه عادة الدّهر ضرّاء وسرّاء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر. {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} تقدّم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين أخذوا هذا الأخذ.
{ولو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} أي لو كانوا ممن سبق في علم الله أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذّبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبق به القدر وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسباً والموجد لهما هو الله تعالى لا يسأل عما يفعل، وقال الزمخشري: اللام في القرى إشارة إلى {القرى} التي دلّ عليها قوله تعالى {وما أرسلنا في قرية من نبي} كأنه قال ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} لآتيناهم بالخير من كل وجه، وقيل: أراد المطر والنبات {ولكن كذّبوا فأخذناهم} بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في {القرى} للجنس انتهى، وفي قوله واتقوا المعاصي نزغة الاعتزال رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ورتب على التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ولم يذكر مقابل التقوى لأنّ التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنه ينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات والظاهر أن قوله {بركات من السماء والأرض} لا يراد بها معين ولذلك جاءت نكرة، وقيل: بركات السماء المطر وبركات الأرض الثمار، وقال السدّي: المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق، وقيل بركات السماء إجابة الدعاء، وبركات الأرض تيسيرالحاجات، وقيل: بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام وحصول السلامة والأمن، وقيل: البركات النمو والزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم الله أكثر وذلك أنّ السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهما تحصل جميع الخيرات يخلق الله وتدبيره والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب، وقرأ ابن عامر: وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن {لفتحنا} بتشديد التاء ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ومنه فتحت على القارئ إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذّر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة.
{أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون} الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو، (قلت): المعطوف عليه قوله {فأخذهم بغتة} وقوله {ولو أن أهل القرى} إلى {يكسبون} وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن {أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً} وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى انتهى. وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه وأنّ الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير وأنه قدّم الاستفهام اعتناء لأنه له صدر الكلام وقد تقدّم كلامنا معه على هذه المسألة وبأسنا عذابنا وبياتاً ليلاً وتقدم تفسيره أول السورة، ونصبه على الظرف أي وقت مبيتهم أو الحال وذلك وقت الغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن.
{أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} أي في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون {وضحى} منصوب على الظرف أي صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبة من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب وجاء {وهم نائمون} باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائنين وجاء {يلعبون} بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجدّدة شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت، وقرأ نافع والابنان {أو أمن} بسكون الواو جعل أو عاطفة ومعناها التنويع لا أنّ معناها الإباحة أو التخيير خلافاً لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة أمن ونقل حركتها إلى الواو الساكنة والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف وتكرر لفظ {أهل القرى} لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر.
{أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله {أفأمن أهل القرى} {أو أمن} وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر، قال ابن عطية: {ومكر الله} هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله {ومكروا ومكر الله} انتهى، وقال عطية العوفي: {مكر الله} عذابه وجزاؤه على مكرهم، وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافاً إلى الله تحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم.
{أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد {يهد} يبين وهذا كقوله {وأما ثمود فهديناهم} أي بيّنا لهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل وجوهاً، أحدها أن يعود على الله ويؤيد قراءة من قرأ {يهد} بالنون، والثاني أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم من سياق الكلام السابق أي {أو لم يهد} ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم وعلى هذين الوجهين يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي أو لم يبيّن الله أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين أصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم، والمعنى أنكم مذنبون لهم وقد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحلّ بكم ما حل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا، والوجه الثالث أن يكون الفاعل بيهد قوله {أن لو نشاء} فينسبك المصدر من جواب لو والتقدير أو لم نبين ونوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم والمعنى على التقديرين إذا كانت {أن} مفعولة و{أن} هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر الجملة المصدرية بلو و{نشاء} في معنى شئنا لا أن لو التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المضي ومفعول {نشاء} محذوف دلّ عليه جواب {لو} والجواب {أصبناهم} ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله {لو نشاء جعلناه أجاجاً} والأكثر الإتيان باللام كقوله
{لو نشاء لجعلناه حطاماً} {ولو شئنا لرفعناه بها} والذين يرثون الأرض أي يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم، وقال ابن عباس يريد أهل مكة، {ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن {نطبع على قلوبهم} والمعنى أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} أي إن يشأ يدل عليه قوله {ويجعل لك قصوراً} انتهى فجعل {لو} شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر:
لا يلفك الراجيك إلاّ مظهرا ** خلق الكرام ولو تكون عديما

وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون {ونطبع} بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب {لو نشاء} فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ، قال الزمخشري: (فإن قلت): هل يجوز أن يكون {ونطبع} بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على {أصبناهم}، قلت: لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل {ونطبع} على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع.
وقال أبو عبد الله الرازي: تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهم وهو معنى قوله {أن لو نشاء} أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم {ونطبع على قلوبهم} أي لم نهلكهم بالعذاب {نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطّبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه انتهى.
والعطف في {ونطبع} بالواو يمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمة في القلب من نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم: أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم، وقال أبو مسلم: الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو وأجاز الزمخشري في عطف {ونطبع} وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ، قال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتعلق قوله تعالى {ونطبع على قلوبهم}، (قلت): فيه أوجه أو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو {لم يهدني لهم} كأنه قيل يغفلون عن الهداية {ونطبع على قلوبهم} أو على {يرثون الأرض} انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره، وقوله أنه معطوف علي {يرثون} خطأ لأنه إذا كان معطوفاً على يرثون كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} سواء قدرنا {أن لو نشاء} في موضع الفاعل ليهدأ أو في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة {الذين} وهو لا يجوز ومعنى قوله {أصبناهم بذنوبهم} بعقاب ذنوبهم أو يضمن {أصبناهم} معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له.
{تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم و{القرى} هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الرّبط بين هذه وبين قوله و{لو أن أهل القرى} {ونقص} يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك {من أنبائها} ونحن نقصّ عليك أيضاً منها مفرقاً في السّور ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي أي {تلك القرى} قصصنا والأنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم، و{تلك} مبتدأ {والقرى} خبر {ونقص} جملة حالية نحو قوله
{فتلك بيوتهم خاوية} وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها، كما قيل في قوله تعالى {ذلك الكتاب} وفي قوله عليه السلام «أولئك الملأ من قريش» وكقول أمية.
تلك المكارم لا قعبان من لبن

ولما كان الخبر مقيّداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون {نقص} خبراً بعد خبر وأن يكون خبراً {والقرى} صفة ومعنى {من} التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لم تقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذه الأمة.
{ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} قال أبي بن كعب ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل يوم الميثاق، وقال ابن عباس ما كانوا ليخالفوا علم الله فيهم، وقال يمان بن رئاب بما كذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله {ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا ساحر أو مجنون} فالفعل في {ليؤمنوا} لقوم وفي {بما كذبوا} لقوم آخرين. وقيل {جاءتهم رسلهم} بالمعجزات التي اقترحوها {فما كانوا ليؤمنوا} بعد المعجزات {بما كذبوا} به قبلها كما قال {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}، وقال الكرماني: {من قبل} يعود على الرسل تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب بل بقوا كافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل، قال الزمخشري: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله قبل مجيء الرسل أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حتى جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن باتوا مصرّين لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات وقال ابن عطية: يحتمل أربعة وجوه من التأويل، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويل قوله {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد.
والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر أشار إلى هذا القول النقاش، فكان الضمير في قوله {كانوا} يختص بالآخرين والضمير في قوله {كذبوا} يختص بالقدماء منهم، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى
{ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه} وهذه أيضاً صفة بليغة في اللحاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك.
والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون به فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لاسيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبي بن كعب انتهى كلام ابن عطية.
والذي يظهر أنّ الضمير في {كانوا} وفي {ليؤمنوا} عائد على أهل القرى وأن الباء في {بما} ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإتيان بلام الجحود في {ليؤمنوا} مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في {بما كذبوا} موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية، قال الكرماني: وجاء هنا {بما كذبوا} فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في {ولو أنّ أهل القرى آمنوا} وقوله {ولكن كذبوا} وفي يونس أبرزه فقال {بما كذبوا به من قبل} لما كان قد أبرز في {فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا} فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى، ملخصاً.
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} أي مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوي أمرهم في الكفر قبل المعجزات وبعدها {يطبع الله على قلوب الكافرين} ممن أتى بعدهم، قال الكرماني تقدم ذكر الله بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال {ونطبع على قلوبهم} وختم بالصريح فقال {كذلك يطبع الله}، وفي يونس بني على ما قبله بنون العظمة في قوله {فنجيناه وجعلناهم ثم بعثنا} فناسب لطبع بالنون.
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد} أي لأكثر الناس أو أهل القرى أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة قاله التبريزي والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم قاله أبيّ وابن عباس أو الإيمان قاله ابن مسعود ويدلّ عليه الأمن اتخذ عند الله عهداً وهو لا إله إلا الله فالمعنى من إيفاء أو التزام عهد، وقيل العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقاب العقلاء كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و{من} في {من عهد} زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد.
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ومفعول {وجدنا} الأولى {لاكثرهم} ومفعول الثانية {لفاسقين} واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّم الكلام على ذلك في قوله {وإن كانت لكبيرة} ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافية واللام بمعنى إلا، وقال الزمخشري: وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إن إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاءً لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} لما قصّ الله تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبقَ منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تكذيباً وتعنتاً واقتراحاً وجهلاً وكان قد بقي من اتباعه عالم وهم اليهود فقصّ الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله في كتابه ونسب لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح ب {أرسلنا} بنون العظمة اتبع ذلك قصة موسى فقال: {ثم بعثنا} والضمير في {من بعدهم} عائد على الرسل من قوله و{لقد جاءتهم رسلهم بالبينات} أو للأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية فظلموا بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله {إن الشّرك لظلم عظيم} وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال، وقال الأصم: ظلموا تلك النعم التي آتاهم الله بأن استعانوا بها على معصية الله تعالى فانظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهم مثالاً توعد به كفرة عصر الرسول عليه السلام.
{وقال موسى يا فرعون من ربّ العالمين حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل} هذه محاورة من موسى عليه السلام لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان، وقيصر في الروم، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصيّاً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الرّبوبية فاتحه موسى بقوله: {إني رسول من ربّ العالمين} لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله {قد جئتكم} ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله {فأرسل} ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بل قال: {إن كنت جئت بآية} ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة، وقرأ نافع {عليّ أن لا أقول} بتشديد الياء جعل {علي} داخلة على ياء المتكلم ومعنى {حقيق} جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و{أن لا أقول} الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ على كذا ويجب ويجوز أن يكون {أن لا أقول} مبتدأ و{حقيق} خبره، وقال قوم: تمّ الكلام عند قوله {حقيق} و{على أن لا أقول} مبتدأ وخبره، وقرأ باقي السبعة على بجرها {أن لا أقول} أي {حقيق} على قول الحق، فقال قوم: ضمن {حقيق} معنى حريص، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي: على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله
{ولا تقعدوا بكل صراط} أي على كل صراط فكأنه قيل: {حقيق} بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراة أبيّ بأن لا أقول وضع مكان على الباء، قال الأخفش: وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز، وقال الزمخشري: وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه، أحدها: أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله:
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى، هذا الوجه وأصحابنا يخصُّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع، قال الزمخشري: والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقّ أي لازماً له، قال الزمخشري: والثالث أن يضمن {حقيق} معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني ** ولو تسليت عنها أم عمار

قال الزمخشري: والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاسيما وقد روى أنّ عدوّ الله فرعون قال لما قال {إني رسول من رب العالمين} كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب على قول الحق أنْ أكون أنا قائلة والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون {على أن لا أقول} صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق، وقال ابن مقسم {حقيق} من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق {على} برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله {حقيق} انتهى.
وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في {على} {أرسلت}، وقال آخر: إنهم غفلوا عن تعليق {على} برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأنّ رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق.
ولما ذكر أنه رسول من عند الله وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في {جئتكم} لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى {بينة} بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل: التسع الآيات المذكورة في قوله {في تسع آيات إلى فرعون وقومه}، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله {فألقى عصاه} الآية، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله {من ربّكم} تعريض أن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده {فأرسل} أي فخل والإرسال ضد الإمساك {معي بني إسرائيل} أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى
{فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى، وقال تعالى حكاية عن فرعون {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى.
{قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين} لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتحويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة والمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك.
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة.
قال ابن عباس والسدّي: صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً، وقيل: أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى {مبين} ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة، قال ابن عطية {وإذا} ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثة ليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله {ثعبان} ولو قلت {فإذا هي} لم يكن كلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم.
{ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} أي جذب {يده} قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله {وأدخل يدك في جيبك تخرج}، وقيل من كمّه و{للناظرين} أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب، قال مجاهد: {بيضاء} كاللبن أو أشدّ بياضاً، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه السلام شديد الأدمة، وقال ابن عباس صارت نوراً ساطعاً يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم، وقال الكلبي: بلغنا أن موسى عليه السلام قال يا فرعون ما هذه بيدي قال: هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه فقال: يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء، والأخر في غير نفسه وهي العصا وجمع بذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع، قال أبو محمد بن عطية: هاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقاً فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال: التحدّي هو الدعاء ألى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكون تحدّي موسى بالآيتين جميعاً لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معاً وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما انتهى، وهو كلام فيه تثبيج.
{قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم}. وفي الشعراء {قال للملإ حوله إنّ هذا لساحر عليم} والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أنهم أجابوه في قوله {أرجه} وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعباناً والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا: {عليم} أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال
{أهذا الذي يذكر آلهتكم} {أهذا الذي بعث الله رسولاً} {إن هذا إلا أساطير الأولين} {ما هذا إلا بشر مثلكم} {إنّ هذان لساحران} {إن كان هذا هو الحق من عندك} يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكدّوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام.
من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية. قال البغوي: هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب فعلموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم دعاهم وسألهم فقال: ماذا صنعتم قالوا علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به، وقرأ الأخوان بكل سحّار هنا وفي يونس والباقون {ساحر} وفي الشعراء أجمعوا على سحار وتناسب سحار {عليم} لكونهما من ألفاظ المبالغة ولما كان قد تقدّم {إن هذا لساحر عليم} ناسب هنا أن يقابل بقوله {بكل ساحر عليم}.
{وجاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين} في الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره فأرسل حاشرين وجمعوا السحرة وأمرهم بالمجيء واضطرب الناقلون للأخبار في عددهم اضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحراً فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة {وجاء} قالوا: بغير حرف عطف لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا {إن لنا لأجراً} أي جعلاً، وقال الحوفي {وقالوا} في موضع الحال من السحرة والعامل {جاء}، وقرأ الحرميان وحفص {إن} على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى لأجراً عظيماً ولهذا قال الزمخشري: والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة وجوّز أبو علي أن تكون {إن} استفهاماً حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو فمنهم من حققهما ومنهم من سهل الثانية ومنهم من أدخل بينهما ألفاً والخلاف في كتب القراءات وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثل علمه و{نحن} إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف، وقال الحوفي في جوابه ما تقدم.
{قال نعم وإنكم لمن المقربين} أي نعم إن لكم لأجراً {وإنكم} فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد {نعم} التي هي نائبة عنها والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين فتحوزون إلى الأجر الكرامة والرّفعة والجاه والمنزلة والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز إلى ذلك الإكرام، وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدّة اضطراره لهم وإنهم كانوا عالمين بأنه عاجز ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى عليه السلام.
{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين}. قال الزمخشري تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع انتهى. وقال القرطبي تأدّبوا مع موسى عليه السلام بقولهم {إما أن تلقى} فكان ذلك سبب إيمانهم والذي يظهر أنّ تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى كما قال الفرّاء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب أم أبتدئ وتجيب فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه والملاءة بما عنده وعدم الاكتراث بمناظرته والوثوق بأنه هو الغالب، قال الزمخشري: وقولهم {وإما أن نكون نحن الملقين} فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل انتهى، وأجازوا في {أن تلقي} وفي {أن نكون} النصب أي اختر وافعل إما إلقاءك وإما أمرك الإلقاء أي البداءة به أو إما أمرنا الإلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف ودخلت {أن} لأنه لا يكون الفعل وحده مفعولاً ولا مبتدأ بخلاف قوله {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذّبهم وإما يتوب عليهم} فالفعل بعد {أما} هنا خبر ثان لقوله {وآخرون} أو صفة فليس من مواضع أن ومفعول {تلقي} محذوف أي إما أن تلقي عصاك وكذلك مفعول {الملقين} أي الملقين العصى والحبال.
{قال ألقوا} أعطاهم موسى عليه السلام التقدّم وثوقاً بالحق وعلماً أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله} قال الزمخشري: وقد سوّغ لهم موسى عليه السلام ما تراغبوا فيه ازدراءً لشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً انتهى والمعنى ألقوا حبالكم وعصيكم والظاهر أنه أمر بالإلقاء. وقيل هو تهديد أي فسترون ما حل بكم من الافتضاح.
{فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا} أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}
{يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرّق الله فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لفتل الأنفس كما قال
{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجاً كالجزية فرأوا أنّ ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء {بسحره} وهنا حذفت لأنّ الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و{فماذا تأمرون} من قول فرعون أو من قول الملأ إمّا لفرعون وأصحابه وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر، وقال ابن عباس: معناه تشيرون به، قال الزمخشري: من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي، وقرأ الجمهور {تأمرون} بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاماً وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و{تأمرون} صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي {تأمرون} الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي {تأمرون} ضمير عائد على {الذي} تقديره تأمرون به انتهى، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضاً لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع.
{قالوا أرجه وأخاه} أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل: ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا: إنْ قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرئ بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد، وقيل المعنى احبسه، وقيل {أرجه} بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه {وأخاه} ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظنّ أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبيَّن من غير آية أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه ومؤازراً أشاروا بإرجائهما، وقرأ ابن كثير وهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر، وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها، قال الفارسي: وهذا غلط انتهى، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيّد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم: قال أبو علي ضمّ الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال: ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأنّ الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة، وقال الحوفي: ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد، وقال أبو البقاء: ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأنّ الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضاً على توهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيراً ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة.
{وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم} {المدائن} مدائن مصر وقراها والحاشرون، قال ابن عباس هم أصحاب الشرط، وقال محمد بن إسحاق لما رأى فرعون من آيات الله عز وجل ما رأى قال: لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلماناً وفي قوله {سحروا أعين الناس} دلالة على أنّ السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخيل {واسترهبوهم} أي أرهبوهم واستفعل هنا بمعنى افعل كأبل واستبل والرّهبة الخوف والفزع، وقال الزمخشري: {واسترهبوهم} وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم انتهى، وقال ابن عطية {واسترهبوهم} بمعنى وأرهبوهم فكان فعلهم اقتضى واستدى الرّهبة من الناس انتهى ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب والظاهر هنا حصول الرّهبة فلذلك قلنا إن استفعل فيه موافق افعل وصرّح أبو البقاء بأنّ معنى {استرهبوهم} طلبوا منهم الرّهبة ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زنبقاً وأوقدوا في الوادي ناراً فحميت بالنار من تحت وبالشمس من فوق فتحركت وركب بعضها بعضاً وهذا من باب الشعبذة والدك وروي غير هذا من حيلهم وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوا فألقوا فلما ألقوا والفاء عاطفة على هذا المحذوف، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى، وهو لا يعقل ما قال ونقول وصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصى والحبال حيات وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ولما كانت الرّهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها.